أبحَثُ عن قائد

أبحَثُ عن قائد …
بقلم : د . عاصف سرت توركمن

يشغل التاريخ التركي صفحات مُشرِّفة في تاريخ العالم ، وعند تصفح هذه الصفحات نجد أن الاتراك كانوا من أكثر الشعوب تفاخراً واعتزازاً بقادتهم ورموزهم الذين أسسوا الامبراطوريات والدول والامارات التركية التي حكمت في مختلف بقاع العالم . وقد لعب القادة الاتراك دورا بارزاً في توحيد صفوف القبائل التركية التي أصبحت قوة عظمى في القارة الاسيوية ومنها انتشرت الى بقاع العالم .

لقد فَهِمَ أتراك “الهون Hunlar ” معنى ومغزى العبارة التي تقول : “اُمة بلا قائد كقطيع بلا راعٍ ، يقتاده كل حسب هواه “، وبناءاً عليه ، فقد قام قائدهم “تيومان Teoman” عام 220 ق. م بتأسيس أول امبراطورية تركية جمعت الاتراك تحت سقف امبراطورية سُميِّت بامبراطورية “الهون” . وقد وصلت الامبراطورية الى أوج عظمتها في عهد نجله “مته Mete” الذي زرع نواة توسيع الامبراطورية التي حكمت من شرق الصين الى غرب نهر “الدانوب” . وسار أتراك “گوك تورك Gök Türkler” على خُطى أسلافهم “الهون”، وقام قائدهم “بومين كاغان Bumin Kağan” عام 552 م بتأسيس امبراطورية “گوك تورك Gök Türkler” التي حكمت مناطق شاسعة من آسيا ، ولعبت دورا مؤثرا في تاريخ الصين . وقد لعب ألاتراك من سلالة “الاوغوز Oğuzlar” التي تألفت من أربعة وعشرين قبيلة والتي توحدت تحت أمرة قائدهم “اوغوز خان Oğuz Han” دورا مهما في تاريخ آسيا الوسطى، واستطاعوا من خلال هذه الوحدة تأسيس عدد من الامبراطوريات والدول والامارات التركية التي خرجت من أواسط آسيا ووصلت الى شرق القارة الاوربية وشمال القارة الافريقية .

وعند تصفح صفحات التاريخ مجدداُ نجد أن الاتراك قد شكلوا امبراطوريات متعددة بعد امبراطوريتي “الهون” و “گوك تورك” منها الامبراطورية السلجوقية بقيادة “سلجوق بك Selçuk Bey” عام 960 م . وقد أسست هذه الامبراطورية حتى في فترة ضعفها عددا من الممالك والسلالات والدويلات التركية في إيران والعراق ودمشق وفي بلاد الأناضول وشمال أفريقيا . وكانت “الامبراطورية العثمانية” هي آخر امبراطورية تركية تأسست عام 1299م من قبل “عثمان غازي” الذي ينتسب الى قبيلة “كايي Kayı” من سلالة “الاغوز” . وكانت الامبراطورية العثمانية من أكبر الامبراطوريات في العالم وحكمت في ثلاث قارات (آسيا وأوربا وأفريقية) .

ان الهدف من تقديمي مقدمة موجزة عن تاريخ الاتراك وكيفية تشكيل الإمبراطوريات والدول والامارات التركية التي تأسست من قبل قادتها هو لاهمية فحوى الموضوع وضرورته لتقييم وضع الشعب التركماني الذي يعاني اليوم من غياب القائد الاوحد وخاصة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ العراق “عراق ما بعد عام 2003م” . وأجزم أنه حان الاوان لتركمان العراق الذين ظلوا لعقود طويلة كشعب بلا قائد وقيادة أن يبحثوا عن القائد المُنقِذ الذي سيقود سفينتهم الموشكة على الغرق الى بر الامان . وأعتقد أيضاً بل أجزم أن فحوى موضوع مقالتي سيفتح باب النقد من قبل بعض النقاد والقراء الذين سيصرون باستماتة على أن التركمان لم يبقوا يوما ما بدون قائد وقيادة ، وأنا بدوري أضع الاجابة على الشكل التالي : نعم أن التركمان لم يبقوا بلا قائد وقيادة ولكن القيادة كانت وقتية وأنجزت بعض المهام أما القادة فانهم إما نالوا الشهادة أو واجهوا مجابهة قوية من قبل أبناء جلدتهم الذين تسابقوا فيما بينهم للحصول على المناصب والحط من قدر القادة ، وقد مر التركمان بهذه التجربة المريرة بعد سقوط السلطة السابقة عام 2003م .
والسؤال الذي يطرح نفسه هو : ما هي ميزات القائد الذي أبحث عنه ؟ ويا تُرى هل للتركمان قائد أو قادة تتوفر فيهم شروط القائد والقيادة المطلوية ؟ إذن ينبغي توضيح وبيان صفات القائد الذي أبحث عنه وخاصة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ التركمان السياسي في الوقت الذي تتصارع فيها القوى الداخلية والخارجية لتقسيم العراق والاستحواذ على خيراته النفطية والمعدنية وإبعاد التركمان الذين أصبحوا حجر عثرة في طريق تنفيذ مخططاتهم .

وقبل الخوض في صفات القائد المُرتقب ، ينبغي ذكر أسماء القادة الشهداء ، “عطا خير الله” وشقيقه “اِحسان خير الله” و”النفطچي زا ده لر” و”جاهد فخرالدين” والدكتور “نجدت قوچاك” و”عبدالله عبد الرحمن” و “محمد قورقماز” وغيرهم من الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل قضيتهم العادلة ، كما أن نسيان تاريخ نضالهم سيكون عبثا وظلما بحقهم . وباستشهادهم فَقَدَ التركمان قيادتهم الحكيمة ، وبقيت سفينتهم دون قبطان وطاقم تضرب بها الامواج العالية وتُبعدها عن بر الامان كلما حاولوا الاقتراب من الشاطئ .
كان القادة الشهداء قدوة ونماذج يحتذى بهم ، وقد تركوا للتركمان خزينة سياسية وثقافية واجتماعية كبيرة ليسير على اثرها القادة الذين سيتولون قيادة المسيرة من بعدهم ولكن .. هيهات !!!! .

وعند إعادة النظر في صفحات التاريخ السياسي للتركمان وخاصة في السبعينات من القرن الماضي نجد أن موقف التركمان الجيوسياسي كان سببا في بقائهم بدون قائد وقيادة ، مما أثر على وضعهم الحالي بعد أن تعرضوا لمأساة تاريخية كبرى . وقد أستغل بعض الاشخاص سواء داخل العراق أو في تركيا غياب القيادة التركمانية وخاصة بعد استشهاد الدكتور “نجدت قوجاك” ورفاقه الشهداء الزعيم عبد الله عبد الرحمن والدكتور رضا ده ميرجي ورجل الاعمال عادل شريف ، وحاولوا تزعُّم زعامة التركمان، ولكن ليست بصورة علنية بل بصورة خفية وسَمّوا أنفسهم “قادة خلف الكواليس” . ومن وجهة نظري، لا يمكن تسمية هؤلاء بالقادة لانهم لا يستحقون هذا العنوان، ولان القائد الحقيقي لا يُخفي نفسه خوفا على حياته وماله . وأعتقد ان بعض القراء الاعزاء سواء في تعليقاتهم أو في نقدهم سوف يوجهون اليَّ هذا السؤال : ” ألم يظهر أي قائد تركماني من بين التركمان بعد سقوط النظام العراقي السابق” ؟ وجوابي هو .. نعم .. فقد ظهرت بعض الاسماء القيادية على الساحة السياسية التركمانية بعد سقوط النظام العراقي السابق في التاسع من نيسان عام 2003م بعد أن دخل العراق الى مرحلة سياسية جديدة ، وظهر من بينهم اسم لامع وهو الدكتور فاروق عبد الله عبد الرحمن نجل الشهيد الزعيم عبد الله عبد الرحمن الذي كان من بين شهداء التركمان الذين تم إعدامهم مع الشهيد الدكتور نجدت قوجاق في السادس عشر من كانون الثاني (يناير) عام 1980م ، ولكنه جُوبِهَ بمجابهة قوية من قبل “قادة خلف الكواليس” الذين لم يَرُقْ لهم رؤية القيادة التركمانية الجديدة أو القائد التركماني الجديد . وقد اُنهي مهام عمله ودوره القيادي في الفترة التي كان التركمان بأمس الحاجة الى قائد يقودهم في مسيرتهم النضالية . وظهر من بعده اسم لامع آخر وهو الدكتور سعد الدين أرگچ الذي قام هو وطاقمه القيادي وممثليه في خارج العراق بدور مميَّز لخدمة القضية التركمانية سواء في داخل العراق أو في خارجه . وقد شُبَّه هذا الشخص بالقائد القبرصي الراحل (رؤوف دنكتاش) ، ولكنه تعرض هو الاخر الى مؤامرات ودسائس “قادة خلف الكواليس” والاقزام التابعين لهم ، وبذلك تم استبعاده وطاقمه من العملية السياسية بعد أن قطعت شوطا كاملا في المسيرة السياسية . وقد شارك في هذه العملية بعض الاشخاص الذين يحتلون حاليا مواقع قيادية في الجبهة التركمانية العراقية ، وقد صرفوا أموالا طائلة من أجل تحفيز وإثارة بعض الشباب ضد الدكتور سعد الدين أرگچ وطاقمه السياسي . وقد أثَّر هذا الاستبعاد على العملية السياسية والمستقبل السياسي للتركمان كثيرا وعلى الساحتين المحلية والدولية . ورغم التظاهرات الجماهيرية التي قام بها التركمان بكركوك لايقاف هذا النزيف السياسي ألا أنهم أُجبروا على اِلزام الصمت ، وبذلك فقد عمل المنشار على الاشجار التي زرعها هذا القائد مع طاقمه في حقل السياسة قبل جني ثمارها . ومن الجدير بالذكر وأقولها بكل أسف أن بعض التركمان لا يُقِّدرون قادتهم وهم أحياء ويكيدون لهم المكائد ، ولكنهم يعطون له عنوان القائد المكتوب على اللافتات السوداء المعلقة على الجدران بعد استشهاده ، والامثلة على ذلك كثيرة ولا أريد الخوض فيها . وعند مقارنة هذه الحالة مع حالة القوميات العراقية الاخرى نجد أن القوميات الاخرى يمجدون قادتهم ويمتثلون لاوامره سواء كان على حق أو على باطل .
ان التركمان اليوم أحوج من الامس الى قائد حقيقي وليس الى “قادة خلف الكواليس” ، ولكن يا تُرى ، ما هي الصفات التي يجب أن يتحلى بها هذا القائد الذي أبحث عنه ؟ .
أبْحَثُ اليوم عن قائد حقيقي يتحلى بصفات القيادة الحكيمة والفذة ، ويتصف بروح النضال والكفاح ، ويكون لديه أفكار سياسية ومواقف ايجابية ، ولا يتفرد بالحكم وبإصدار القرارات الفردية ، وأن لا يعمل من أجل مصلحته ومصلحة أقربائه والمحيطين به ، وأن يعمل مع طاقمه من أجل تحقيق إلانجازات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ، وأن يحترم وجود الاخرين ويحترم آرائهم وأن يتسع صدره لتقبل النقد وأن لا يتهم الناقدين بتهم لا تليق بهم أو يقوم باتخاذ إجراءات ضد أبناء جلدته وأن يكون كالنسر الناشر جناحيه ليحمي تحته أبناء شعبه .

أبْحَثُ اليوم عن قائد يعرف كل المناورات السياسية ، وأن يكون له اِلمام بالتاريخ ومنه يُأخُذُ الدروس والعبر ، وأن يكون مُلمَّاً بالمستجدات ومهيمناً على السياسية ، ويتابع التطورات على جميع الاصعدة ، وأن لا يكون صلبا لينكسر وأن لا يكون لينا أو ضعيفا لينحي بسهولة ، وأن يكون جادا في عمله ويحترم الاخرين ويقابلهم بوجه حسن، وأن يكون رحيما ومنصفاُ عندما يمسك ميزان العدالة ، ومستقيما عندما تفيض عليه الرحمة .

أبْحَثُ اليوم عن قائد يقتدي بصفات الرسول محمد بن عبد الله (عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام) ، وأن لا يهاب النار والموت مثل ابراهيم (عليه السلام) ، وأن يتصف بالشجاعة مثل شجاعة الامام علي (عليه السلام) وأن يتحلى بصدق اسماعيل وادريس (عليهما السلام) ، وأن يكون صادقا في كلامه مثل صدق يوسف (عليه السلام) والامام جعفر الصادق (عليه السلام) ، وأن يكون صابرا مثل أيوب (عليه السلام) ، وأن يَشُدَّ راية التركمان على عصا موسى (عليه السلام) ليمشي في شَقِّ البحر ليلحق به قوافل التركمان ويقودهم الى بر الامان .

أبْحَثُ اليوم عن قائد لا يؤمن بالتفرقة الطائفية ولا يُمييز أو يُفرق بين أبناء الطوائف من بني جلدته لانهم جميعا يؤمنون برب واحد ودين واحد .

أبْحَثُ اليوم عن قائد يهتم بشباب التركمان وأن يُنَمِّي فيهم روح القضية ويُهيئهم على تولي القيادة من بعده لقيادة التركمان … وأن لا يهيمن على الحكم ، وأن يُخرج حب المناصب والمقاعد من قلبه لان المناصب والمقاعد زائلة ولا يبقى الا الذكر الطيب .

أبْحَثُ اليوم عن قائد يكون بليغا ولديه القدرة على الكلام والتأثير على الاخرين من خلال أفعاله وخطاباته ، وأن يستمع الناس اليه ، وأن يكون لديه القابلية على التعبئة ، وأن يكون لديه الرغبة والعاطفة والحماس .

أبْحَثُ اليوم عن قائد لديه رؤية مستقبلية وله قابلية التطلع إلى المستقبل ، وأن يكون صاحب قرار ، وأن لا يتفرد به ، وأن يتخذ القرارات جنبا إلى جنب مع فريق عمله عملا بالمثل المأثور “ان اليد الواحدة لا تصفق”، وأن يكون صاحب أفق واسع وله القابلية على الابداع .

أبْحَثُ اليوم عن قائد يفهم ويعمل بمقولة “ونستن تشرشل” رئيس الوزراء البريطاني السابق الذي قال : “ليس في السياسة عدوٌ دائم بل أن السياسة مبنية على المصالح” ، وأن يفكر بمصلحة التركمان وليس بمصالحه الشخصية .

أبْحَثُ اليوم عن قائد يتكلم أحدى اللغات الاجنبية ، وأن يعرف أسلوب الجلوس والمناقشة خلال الاجتماعات والندوات ، وأن يعرف أسلوب المقابلات وكيفية الجلوس مع الشخصيات ، ولربما يقول البعض أن معرفة اللغات الاجنبية غير ضرورية ، وأن قادة العالم يستخدمون المترجمين في لقائاتهم ، ولكن أقول لهم أن وضع التركمان يختلف كثيراً عن الاخرين، لان من يستَمِع الينا لا يعطينا فرصة الحديث كثيراً وقد مررنا من هذه التجارب في السابق .

أن القائد لا يكون قائدا بمجرد تعليق أو لصق صوره الكبيرة على الجدران، وأقولها بكل أسف اننا عشنا هذه التجربة في الانتخابات العراقية الاخيرة حيث قام بعض الاقزام والمحسوبين على التركمان “واُنَزِّه الشرفاء منهم” بتلصيق صورهم الكبيرة الى جانب صور المرشحين الاساسيين، ولكن كشف التركمان حقيقة هؤلاء . وقد اثبتت نتائج الانتخابات العراقية السابقة مدى ثقلهم على الساحة السياسية التركمانية .

وأخيرا وليس آخرا ، فقد حملت الفانوس أو المشكاة بيدي لابحث عن هذا القائد مثلما فعله “الامام سوتجو Sütçü İmam” في 31 تشرين الاول (اكتوبر) عام 1919م في مدينة “قهرمان مراش Kahraman Maraş” التركية ، وأنا اليوم مستمر بالبحث عن هذا القائد الذي يتحلى بالصفات التي ذكرتُها ، وليس عن المرشد أو المعلم أو “قادة خلف الكواليس” مشيراً الى “ليس كل ما يلمع ذهب ولا كل ما يبرق فضة”.

وبدوري أوجه للشعب التركماني هذا السؤال ، هل سنجد من يتحلى بالصفات القيادية التي ذكرتها خلال أسطر هذا المقال؟ واذا كان هناك شخص واحد أو أكثر فليدلنا عليه أحد منكم لكي ندعمه من كل قلوبنا ونسير خلفه …. واذا سألتموني عن هذا القائد فأقول لكم نعم هناك قائد بل قادة كثيرون ولكنهم اُبعِدوا قسرا عن العملية السياسية ….. وأنتم ماذا تقولون ؟ .