بين الكذبِ والحقيقة

 

بين الكذبِ والحقيقة

دوغوكان دميرال

في ليلة 15 حزيران من الشهر الماضي أطلقت تركيا عملية عسكرية ضد منظمة “بي كا كا” الإرهابية وسمتها بمخلب النسر والنمر. وفي ليلة نفسها قامت المقاتلات التركية بشن هجوم لمواقع المنظمة المذكورة أعلاه في منطقة “حفتانين”. وفي مقابل ذلك جاء تصريح من وزير الخارجية العراقي الأسبق هوشيار زيباري يقول فيه “أن تركيا تريد التغلغل في العمق العراقي من أجل استرجاع ولاية الموصل وضمها إليها حسب اتفاقية لوزان لعام 1923 التي أُبرمت مع بريطانيا والدولة التركية الحديثة”.

 وإن هذه العمليات ليس هي إلا عذر لضم الموصل اليها بعد نفاذ المدة المحددة لمعاهدة لوزان في عام 2023. لنأتي الان للتعرف على معاهدة لوزان وبنودها وعلى ماذا تنص: معاهدة لوزان هي تلك المعاهدة صلح أ ُبرمت مع ممثلي البرلمان التركي أنداك “في حينها تركيا لم تكن جمهورية” من جهة ومن جهة أخرى كلاً من المملكة المتحدة “بريطانيا العظمى” والجمهورية الفرنسية والامبراطورية اليابانية وإيطاليا واليونان ورمانيا وصربيا والكرواتية وسلوفانيا “يوغسلافية”.

 وقد اجتمعت هذه الدول في مدينة لوزان في سويسرا وتم تسميتها نسبة اليها من أجل الاتفاق على حل النزاعات الحدودية البرية والبحرية وإعادة رسم حدود تركيا من جديد باستثناء الحدود الايرانية-التركية لان حدود هاتان الدولتان رسمت بموجب معاهدة قصر شيرين في تاريخ 17 مايو 1639 أبان الحكم العثماني- الصفوي. وتلك الدول التي اجتمعت في لوزان باستثناء بريطانيا وفرنسا واليابان كانت تابعة للدولة العثمانية باستثناء بريطانيا وفرنسا واليابان والتي حكمت العالم قرابة 622 سنة.

وبسبب دخولها الحرب مع المانيا ونمسا وخسارتها للحرب العالمية الأولى 1914-1918 تلاشت وتجزأت الى 22 دولة عربية و10 دول البلقان واليونان ومقدونية وغيرها من الدول. وقد أُبرمت معاهدة لوزان مباشرة بعد حرب الاستقلال أو حرب التحرير ضد اليونانيين الذي خاضه الجنود العثمانيين بقيادة مصطفى كمال وفي ذألك الوقت لم يكن يلقب بأتاتورك.

وهنا يجب أن نسترجع ذاكرتنا إلى الوراء قليلاً والذهاب لعام 1920، في ذلك عام أبرمت الحكومة العثمانية معاهدة سيفر مع الدول الغالبة أو دول الوفاق في باريس بمقاطعة سيفر وكان على رأس الوفد العثماني وزير التربية والتعليم الأسبق محمد هادي باشا البغدادي (من أصل عربي).

وتنص هذه المعاهدة الى تقسيم الدولة العثمانية ما بين بريطانيا وفرنسا واليونان وإيطاليا وتشكيل دولة جديدة باسم أرمينيا على أراضي تركية وتضم كلاً من طرابزون ووان وبيتليس وأرضروم اضافة الى ذألك تشكيل منطقة كردية مستقلة والتي تضم جزءاً من العراق الحالي وقسم من سوريا الحالية تحت انتداب الإنكليزي والفرنسي وإعطاء الولايات التركية الحالية ک أدرنة   وكركلاريلي وتراقيا وازمير إلى يونانيين، وعنتاب وأورفا وماردين ومنطقة الجزيرة إلى الفرنسين.  كما أعطي الموصل وولايات أخرى “العراق الحالي” إلى البريطانيين، كما كان هناك امتيازات أخرى تشمل على عدم فرض رسوم كمركية في المنافد البرية والبحرية التركية على دول الوفاق ووضع المنافد البحرية تحت آمرة الإنكليز والفرنسيين. وهناك بنوداً أخرى أهمها تجريد الدولة العثمانية من الاليات والأسلحة الثقيلة وخفض عدد الجنود وكل هذه البنود والاتفاقيات تجري بأشراف لجنة المراقبة تابعة للحلفاء أو دول الوفاق وكانت تدقق وتفتش بين الحين والاخر.

 وتمت الموافقة على معاهدة سيفر ايضاً من قبل السلطان العثماني وخليفة المسلمين محمد وحيد الدين الخامس. وفي هذا الصدد ثار جيوش العثمانيين القوميين بقيادة مصطفى كمال ضد اليونانيين والبريطانيين والفرنسيين وإيطاليين وخاضوا حرباً شرساً من أجل تخليص الوطن من المحتلين الأجانب. وبعد تحرير الاراضي المحتلة من قبل اليونانيين “إزمير وأفيون وأُشاق” اتجهت القوات التركية إلى مودانيا للأجل تحرير اسطنبول من دنس الإنكليز. وأُعتبرت تلك خطوة جريئة  التي خاطاها  الضباط الاتراك لإجبار الإنكليز على ترك معاهدة سيفر وإعادة الأراضي التركية المحتلة لأصحابها الأصليين.

وعقب ذلك اجتمع جميع الأطراف في لوزان لترسيم حدود الدولة التركية من جديد. وكان رئيس الوفد التركي وقتها عصمت باشا مخولاً من البرلمان التركي في أنقرة “الذي أصبح فيما بعد رئيساً للوزراء”. كما استدعت بريطانيا وفداً من حكومة إسطنبول أيضاً للحوار في لوزان، وكانت حكومة إسطنبول بمثابة خائن في نظر حكومة أنقرة والتي كانت قومية ووطنية لم ترضى ابداً بدولة ذا رأسيين فألغت الملكية والسلطنة وجرد السلطان من الصلاحيات وبقي فقط خليفة للمسلمين دون نفوذ سياسي. ومن هنا نرى أن وفد حكومة أنقرة رجع منتصراً على دول الوفاق في سياسة الطاولة بمعاهدة لوزان باستثناء ولاية الموصل الذي لم يدخله الإنكليز جبراً وإنما دخلوها حسب معاهدة سيفر.

 كان العراق الحالي يدار من قبل العثمانيين على شكل ثلاث ولايات وهي كلاً من ولاية الموصل وولاية بغداد وولاية البصرة وفي نهاية الحرب العالمية الأولى دخلت القوات البريطانية إلى البصرة وبغداد فقط، ولم تستطيع أن تدخل الموصل الا بعد معاهدة سيفر.

ومن جانب آخر كانت ولاية الموصل ضمن الميثاق الوطني التركي ولهذا لم يتم حسم مسألة موصل إلا في عام 1926 أي بعد زوال الخلافة العثمانية. نأتي الى الميثاق الوطني التركي الذي ينص على تخلي تركيا عن جميع حقوقها في المناطق العربية والبلقان باستثناء المناطق التي تشكل الأكثرية السكانية من العروق التركية “ولاية الموصل” التي تضم كل من قضاء كركوك وأربيل وكفري.  أما ولاية حلب والتي تضم الاسكندرونة وهاطاي. اما الجزر 12 التركية الأخرى والتي احتلت من قبل الايطاليين في اثناء الحرب العالمية الاولى وكذألك تراقيا الغربية التي أُحتلت من قبل اليونان. ودامت هذه المفوضات أشهر عديدة وكانت بريطانيا تريد أن تستحوذ على الموصل من أجل مواردها المعدنية وفي ذألك الوقت تركيا لم تكن مستعدة على أن تخوض حروباً جديدة مع بريطانيا لذلك رفعت ملف ولاية الموصل الى عصبة الأمم المتحدة.  وفي تأريخ 28 أكتوبر 1924 حسمت امر ولاية الموصل بقرار دولي على أن تكون ضمن أراضي دولة العراق الحالي بشرط   أن تدفع الحكومة العراقية من واردات الموصل النفطية بنسبة 10% لمدة 25 سنة.

وفي 5 حزيران 1926 جلس الطرفان التركي والعراقي على طاولة الحوار لرسم الحدود السياسية بينهما بأشراف بريطانيا وترتيب علاقات حسن الجوار وسميت هذه المعاهدة بمعاهدة أنقرة.  وتخلت تركيا نهائياً عن الموصل لصالح العراق الموحد بشرط أن لا يتجزأ   عن الدولة العراقية وفي حال انضمام الموصل الى مسمى أخر غير الدولة العراقية الموحدة فلها كامل الصالحية في التدخل عسكرياً وإعادتها اليها مرة أخرئ حسب معاهدة أنقرة. وهناك تلفيق آخر يستوجب علينا ذكره أن معاهدة لوزان تنتهي في عام 2023. كما أعتقد أن المعاهدات تنبرم لمرة واحدة وليس لها تأريخ نفاذ إلا في حال حدوث أحداث سياسية أخرى. وفي عام 1939 حسمت مسألة حلب مع الفرنسيين وانضمت ولاية هاطاي إلى تركيا، وتنازلت تركيا عن الحلب لصالح سوريا، وفي عام 1974 شنت تركيا حملة عسكرية وحررت نصف جزيرة قبرص من الروم ذو الاكثرية التركية، وكانوا اتراك قبرص في تلك الفترة يعيشون تحت اضطهاد الروم والمدعوم من اليونان. وبهذا لم تبقى سوى الأراضي مع دول الجوار عدا اليونان والجزر اثنا عشر التي احتلتها إيطاليا وبعد ذألك تنازلت عنهم الى اليونان وكذألك مسالة غرب تراقيا.

أن تصريح هوشيار زيباري آمراً غريباً لا يقبله العقل والمنطق وما هو إلا تلفيق وتأليف وكذبة صدقوها وتستطيعون أعزاءي القراء على الاطلاع إلى تلك الوثائق “التي ذكرت” من الأرشيف التركي وهو مفتوح للكل بأي وقت ومجاناً.

حساب الانستغرام: i_d_demirel